🔺فبعد بطولات وجراح تلقاها الأمير عبد القادر إبان حروبه،لم تتغيَّر عليه عافيةُ صحته أيام الشباب والكهولة في شيء،لكن كُتب عليه في الأشهر الأخيرة مرضٌ عُضال في الكلى والمثاني،فحضر الأطباء من بيروت، وقدَّموا له بعض الإسعافات الجراحية،وحصل له بعض الراحة،
ثم اشتدَّ عليه المرض، فتناوب عليه الأطباء من دمشق ليلاً ونهاراً في شهره الأخير في قصر دمر الكائن على جبل يُسمَّى دمر،كان يقضي فيه أيام الصيف، وكان ممن يتولى الإشراف على صحته وأمنه نجله البكر الأمير محمد باشا، الذي قال:
لم يظهر عليه ضجرٌ ولا تأوُّه قط، مع شدة الورم السرطاني،ولا ترك الصلاة في وقت من أوقات الوجع ، إلا أن كلامه أصبح قليلاً مدة خمسة عشرة يوماً،حتى دعاه مولاه إلى سعة رحمته في مساء السبت،
واصطكت لخبر وفاته الأسماع، وارتجَّت به الضلوع، وفي الحال شاع خبره، ونقلته الأسلاك التلغرافية إلى سائر الأقطار، ولما تعالى النهار حملوه إلى داره في حي العمارة بدمشق الشام وخرجت عموم الأهالي كدراً،وتقاطر الناس إليه
زُمراً زُمراً،وبعد التجهيز للصلاة عليه في مسجد بني أمية حُملت جنازته إلى جبل الصالحية،يَحفُّها سائر عُلماء البلد وأشرافها وحُكَّامها، على اختلاف مِللهم ونِحلهم، فلم يتخلَّف كبيرهم ولا صغيرهم عن تشيعيها، واتصلت الجماهير المُشيِّعةُ من أزقة دمشق القديمة حتى جبل الصالحية،محفوفة بالعساكر والجند السلطانية،ولم تكن للأمير وصية بمكان الدفن،وكان قد وصل وفد من الأزهر الشريف،لعلمهم بحالته الحرجة،برئاسة العلَّامة الكبير عبد الرحمن عليش،الذي تولَّى غسل جثمانه بيده،مع مجموعة من أكابر علماء بلاد الشام وأشار الإمام نقيب السادة الهاشميين محمود حمزة بدفنه إلى جوار سُلطان العارفين الشيخ الأكبر مُحيي الدين بن عربي…
🔺وقال فيه :
والسّالِكُونَ سَطَت عَلَيهِم حَيرةٌ
وغَوى لَهم نَهجٌ وضَلَّ سبيلُ
والعارفونَ تنكَّرَت أحوالُهم
فحِجابُ عَينِ قُلوبهم مَسدول ُ
فما أعظمه مفقوداً وما أكرمه موجودا…
🔺أتعب في حياته المادحين، وأطال بموته بكاء الباكين،فبكاه الفضل والكرم،وندبه السيف والقلم،وركب على الأعناق بعد العِتاق، وعلى الأجياد بعد الجياد،وعُدَّ مصابُه في الإسلام ثلمةً،وفُقد منه في العالم من كان يُدعى لكلِّ مُلِمّة إنا لله وإنا إليه راجعون…
🔺وكتَبَ على شاهدة الضريح الأديبُ الشيخ عبد المجيد الخاني هذا البيت:
لله أُفْقٌ صار مشرق دارتي
قمرين هلا من ديار المغرب
الشيخُ مُحيي الدين ختمُ الاولياءِ قمر الفتوحات الفريد المشرب
و الفرد عبد القادر الحسني الأمير قمرُ المواقفِ ذا الوليّ بن النبيّ
مَن نالَ مَعْ أعلى رفيقٍ أرِّخوا
أزكى مقاماتِ الشُّهودِ الأقرَبِ
🔺هذا التعبير يقال في مقام التعجّب أي عظيم ما جئتَ به فهو تعبير اصطلاحي مجازي، جرى مجرى المثل وشاع استعماله بهذا المعنى:إذ خرج هذا التركيب من المعنى الذي توحي به ألفاظه إلى معنى بلاغي يقال في مقام التعجّب…
🔺وقال فيه أخيه الإمام أحمد بن مُحيي الدين … كان طيب الله ثراه مربوع القامة مُعتدلَ الجسمِ أبيض اللون أسود الشعر كثَّ اللحية، أقنى الأنف، ومن أسرار قوته البدنية كان أضبطَ، أي يعمل بيساره جميع ما يعمله بيمينه أشهلَ العينين،يمشي الهوينى وكانت له مبرات كثيرة من جملتها أنه كان يوزع مئتي ليرة في كل شهر على العلماء والفقراء،فضلاً عما كان ينفقه في وجوه البر، وكان خَرجُه أكثرَ من دخله الوافر، حيث توفي وعليه ديونٌ كثيرة،
🔺نرفق الوصية التي تتضمن قائمة الديون من سجلات المحاكم الشرعية العثمانية في الرابط: التي اقتضت بيع بعض أملاكه الموهوبة له من السلطنة العثمانية لوفائها،
وكان طيّب الله ثراه يُعظم أهل العلمِ، حسن المسامرة ، لطيف المُعاشرة، لا يردُّ سائلاً ولا يخيب قاصداً ،لا ينسى أحداً من الذين تعودوا إحسانه،ولم يكن عنده شيء من الكِبر الذي تنزهت عنه نفسه المُطمئنة ولا يتأنق في الملابس والمطاعم لتحققه بالزهد والتواضع العجيب،وله خلوة في منزله بقرية أشرفية صحنايا كان يتحنَّث بها في شهر رمضان مع العُزْلَةُ التامةِ…
المصدر: تحفة الزائر …
المصدر: نخبة ما تسرُّ بهِ النواظر وأبهج ما يُسطَّرُ في الدفَاتِر…
سجلات المحاكم الشرعية التي تتضمن قائمة الديون والوصية :
مخطوط : تعطير المشامّ في محاسن دمشق الشّام” للشيخ جمال الدين القاسميّ