التاريخ والماضي

المَخزن في مواجهة الأدارسة…

غاراتُ المخزنِ على الأدارسةِ دفعت خِيرةَ التُّجّارِ والأعيانِ وقبائلَ الرِّيفِ إلى مبايعةِ الأميرِ عبدِ القادرِ، إبّانَ مقامِه في المغربِ، سعيًا منهم إلى استئصالِ سلطانِ مراكش. فهل خذل الأميرُ عبدُ القادرِ نُخَبَ مراكشَ وفاسَ، أم أنَّ ثوابته حالت دون أن يخوض ـ ولو شرفَ المحاولةِ ـ في هذا الصراعِ.

قيل: يلجأ الإنسان إلى خفايا التاريخ ليتذوّق طَعم أسراره، وينغمس فيه باحثًا عن مفاتنه، ساعيًا إلى إسقاط ستائر الظلام التي نُسجت حوله.

وليس الفضلُ في كشف تفاصيل مقتل الوزير محمد بن إدريس إلا للمزاري المخزني ، الذي فضح ما جرى داخل القصر، وكان معاصرًا وشاهداً على الأحداث ولم يكن المزاري مجرد مؤرخ أو شاهد عابر، بل كان وجيهًا من وجهاء المخزن  الجزائري المسمى حينها بالمخزن الشرقي،كان له اختراقات استخباراتية وعسكرية مهمّة في زمانه ومكانه بل خصّص في مخطوطته فصلًا بعنوان:

حرب قبائل المخزن على الأمير عبد القادر

وإذا بحثنا في “ويكيبيديا” ومحركات البحث أو في مؤلفات السابقين والمعاصرين ممن كتبوا عن الوزير محمد بن إدريس في تاريخ المغرب الحديث، نجدهم يكيلون له الثناء المطلق بإجماع، لكنهم في الوقت ذاته يحرصون كل الحرص على إخفاء طريقة مقتله، ويتجنبون ذكرها بمهارة، مكتفين بالقول: إنه تعرض في آخر حياته لوشايات فسُجن،إلى آخر التبريرات.

-أما الطامّة الكبرى، فهي أنّ تلك المآسي مدوَّنة بوضوح في مخطوطات المخزن الشرقي والغربي، ومع ذلك يستمر بعض المشتغلين بالتاريخ الجزائري في التستّر عليها، وكأنهم شركاء للمؤرخين المغاربة في هدف التعتيم ذاته.

ومع كامل الإجلال والتقدير لروح الدكتور الراحل يحيى بوعزيز الذي حقّق مخطوطة المزاري، نقول:

-إن الوزير محمد بن إدريس الإدريسي قُتل ركلًا بالأرجل حتى لفظ أنفاسه الأخيرة أمام السلطان عبد الرحمن .

-ولم نذكر في هذا المقال رواية أو شهادة إلا واستقيناها من مخطوطات المخزن الشرقي والغربي،حتى لا يُقال إننا نستند إلى الأهواء أو المصادر الخاصة،ونترك العبرة إلى خير ما قيل:

        ﴿وشهد شاهدٌ من أهلها﴾

-إن حادثة مقتل ابن إدريس تكشف  في ميزان الحق  مدى وفاء النخب المغربية،المتمثلة في التجار والأعيان ورجال البلاط ومن ورائهم كثير من القبائل،لنيّتهم في إسقاط السلطان عبد الرحمن بسبب عمالته للفرنسيين وتوقيعه ميثاقًا مع الجنرال بيجو لشن حرب شاملة على الأمير عبد القادر.

ومن رسائل الوزير محمد بن إدريس وأعيان المغرب السرّية إلى الأمير عبد القادر قولهم:

أيها الأمير، جِدَّ السير لتملك المغرب بأسره،ولتسكن مدينة فاس، فإن أبوابها مفتوحةلك من كل ناحية ادخل إن شئت من باب الكيسة، أو من باب الفتوح

-ويضيف وزير مراكش للأمير عبد القادر في رسالة أخرى:

إني متفق مع الكبراء من التجار والأعيان والعلماء وأهل الديوان على تمليك المغرب لكعلى ما تريد، لتكون سلطانه الطود العظيم، والليث الشديد،فقد عَظُم ظلم العلويين،وعجّل الله بمحقه على يد الأدارسة، فالمغرب لا يسعد إلا بالأدارسة، وأنت واحدٌ منهم.

-هذا النص أورده المزاري المخزني في طلوع سعد السعود (ج 2، ص 245)، كما ذكره الناصري السلاوي في الاستقصا (ج 9، ص 56) عند حديثه عن الأمير عبد القادر، حيث اعترف بأن الأمير دعا أهل النواحي إلى مبايعته، وأن خواص فاس كاتبوه،بل والدولة راسلته.

إلا أنّ الناصري تعمّد التعمية على مقتل الوزير ابن إدريس، واكتفى بالتلميح، خوفًا من كشف الحقيقة وهو كان يعمل في بلاط السلطان بينما يصرّح المزاري (ج 2، ص 246) أن السلطان عبد الرحمن أمر بقتل الوزير ركلًا بالنعال حتى مات.

-مصادر أخرى تؤكد أن الوزير والسفير البوحميدي قضيا تحت التعذيب بسبب وشايات بمراسلة أعيان مراكش وفاس للأمير، فاستُشهدا معًا في ديسمبر 1847م.

ومع ذلك،فإن الأمير عبد القادر لم يُبدِ اهتمامًا بالاستيلاء على سلطنة المغرب الأقصى؛ إذ كان بوسعه مهاجمة فاس بعد معركة سلوان، حين هزم فرقة محمد الرابع وكاد يأسره لولا فراره بأعجوبة.

لكنه امتنع،وكان ذلك دليلًا بيّنًا على أن السلطة لم تكن غايةً من غاياته.

-هذه الحقائق أثبتتها مخطوطة طلوع سعد السعود (ج 2، ص 248) وكذلك الكولونيل تشرشل البريطاني، وكلاهما معاصر للأحداث.

والأمير عبد القادر ـ بطبيعته ـ لم يكن هدفه مُلك أو سلطان، بل مقاتلًا مجاهدًا ضد الاحتلال الفرنسي، رغم أن بطانة السلطان عبد الرحمن أغرته بفتح أبواب فاس له.

-ومن المراجع المهمة في هذا السياق مخطوطة الابتسام عن دولة ابن هشام التي حققها الدكتور المغربي عبد الهادي التازي وهي من تأليف أحد كتاب الوزير ابن إدريس. تكشف هذه المخطوطة عن حقائق طُمست، منها طبيعة علاقة السلطان عبد الرحمن بالفرنسيين، وموقفه من الأمير عبد القادر وقد ورد فيها محضر اجتماع صريح بين السلطان والبوحميدي، فيه اعترافات خطيرة حول خيانة السلطان وتحالفاته.

هكذا يبقى الحكم للتاريخ، وشهادات المعاصرين، التي تثبت أنّ ما جرى لم يكن سوى صراع دموي بين المخزن وأحرار المغرب والأمير عبد القادر، وأن التعتيم الذي مارسه مؤرخو البلاط كان متعمدًا لإخفاء الحقيقة.

المصادر:

أولًا: طلوع سعد السعود للمزاري المخزني، وهو شخص يُعَدّ من المعادين للأمير عبد القادر أرّخ حرب المخزن على الأمير، وحرب الأمير على المخزن…

 

أولا

المصدر: مذكرات الكولونيل البريطاني شارل هنري تشرشل، المعنونة: عبد القادر سلطان العرب





🔺المصدر : الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى للناصري السلاوي …






المصدر : مخطوط الابتسام عن دولة ابن هشام تحقيق الدكتور عبد الهادي التازي…

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى