التاريخ والماضي

ما جرى من حديثٍ بين الأمير عبد القادر والمارشال بيجو في تافنة

التمس الجنرال بيجو من الأمير أن يجتمع به، فاجابه لذلك

وبعد إمضاء صكِّ هذه المعاهدة وتقريرها،كتب الجنرال لوزير الحرب، يعتذر عن عقدهالمعاهدة، التي افتتحها بقوله إنكم تعتقدون أنه يؤلمني جداً، أن أعمل أفكاري، بعدماتباع تعليماتكم بالنظر إلى الحدود المعينة فيها للأمير. على أن ذلك كان محالاً. ويتيقَّنواأن الصلح الذي عملته، هو أحسن، والأرجح أن يكون طويل المدَّة. وأفضل مما اعملهبحصر الأمير بين نهر شلفومراكش.

قال ثم التمس الجنرال بيجو من الأمير أن يجتمع به، فأجابه لذلك. وعيّن له الموضعالذي يجتمعان فيه“. فركب الجنرال مصحوباً بستِّ فرق من المشاة، وفرقة من الخيالة،وفرقة من المدفعية، وفرقة من الفرسان وسار إلى المحلِّ المعيّن الذي يبعد سبعساعات عن عسكر الأمير . وثلاث ساعات عن الفرنساوي فوصله قبل الأمير. وبعد مضينحو خمس ساعات، أقبلت فرسان من العرب. يعتذرون عن تأخر السُلطان بأنه أبطأ فيالخروج لانحراف مزاجه.

غير أنه ليس ببعيد أن يصل. ثم أقبلت فرسان آخرون، يطلبون من الجنرال أن يتقدم قليلا للقاء السُلطان. والجنرال لم يمكنه الرجوع حتى ينال مطلوبه المرغوب وهو اجتماعه بالأمير. وبعد أن سار نحو الساعة، أشرف على جيش الأمير، المشتمل على نحو خمسة عشر ألف فارس، قادمين بنظام عجيب وترتيب غريب، في سهل يموج بهم،ومنظرهم يفتن العقول. وبعدهم شاهد الأمير، وقد أحاط به نحو المائين من رؤساءالعرب، راكبين على سوابق تختال بهم تيهاً. متسربلين بأسلحة صقيلة، (يكاد سناهايذهب بالأبصار]”، وسلطانهم أمامهم ، يفوقهم بالمنظر والشهامة. ممتطياً جواداً أسودتليعاً، وكان يسيّره بصنعه غريبة. تارة يختطف الريح بقوائمه خطفاً. وأخرى يمشيه علىرجليه. وكانت تلك الحركات تزيده هيبة، وهو غير مبال بها. وحوله ستة من السياسآخذين بوكابه. فتقدم إليه الجنرال مطلقاً عنان فرسه نحوه؛ ولدى وصوله لديه

تصافحا ثم ترجَّلا، وجلسا. وأخذت الموسيقى تصدح بأنغامها المطربة، فسأل كلِّ منهماالآخر عن صحته، وأخذا في الحديث.

فقال الجنرال: (أتعلم أيها الأمير، إنه قلَّ ما تجد من القواد غيري، من يتجاسر على اجراءمثل هذه المعاهدة معك. حيث لا أخشى من زيادة عظمتك، ولا ازدياد قوتك. لأنيمتيقن أنك لا تستعمل القدرة التي أعطيناها لك، إلا لتحسين أحوال العرب، مع حفظهابالسلام التام مع الفرنساوية.

فأجابه الأمير: إني أستكثر خيرك، على حسن إحساساتك لجهتي، ويحوله تعالى لا أجعلأبداً سبباً يكدر السلام بين هاتين الأمتين ،

قال الجنرال إنني على هذا الشرط جعلت نفسي كفيلاً لك، عند ملك فرانسا.

فأجابه الأمير:ليس عليك خطر في ذلك.فإن لنا ديناً وأخلاقاً عربية، تلزمنا المحافظة علىقولنا. وأنا لا أغير قولي.

قال الجنرال: فلهذا اعتمدت على ذلك. وبحسبه أقدم لك محبة خصوصية.

فأجابه الأمير: قد قبلت محبتك. وإنما فلتحترس الفرنساوية من كلام المفسدين.

فقال الجنرال: إن الفرنساوية لا تنقاد لكلام أحد، والخصومات الخصوصية التي يرتكبهاالبعض، لا تنزع السلام من بيننا. إنما ينزعه عدم إجراء شروط المعاهدة، أو وقوعخصومة كبيرة، وأما الذنوب التي يرتكبها البعض؛ فإننا نعلم بعضنا بها، ونقاصص عليهامن يتجاسر على فعلها.

فأجابه الأمير: هذا حسن جداً. فليس عليك إلَّا أن تعلمني، وأنا أجري ما يقتضي.

قال الجنرال: إنني أوصيك ب الكول أوغلان الذين يبقون في تلمسان.

فأجابه الأمير: كن مطمئناً من جهتهم، فإنهم يعاملون نظير الحضر.

قال الجنرال: وعدتني إنك تضع عرب الدوائر والزمالة في بلاد هبرة. فأظن أنها لاتكفيهم.

فأجابه الأمير: يوضعون في مركز، لا يمكنهم من إيقاع ضرر، لحفظ السلام.وبعد أنسكتوا قليلاً؛

رجع الجنرال إلى الحديث، فقال: وهل أمرت أيها الأمير برجوع علاقات التجارة فيالجزائر والمدية؟ فأجابه الأمير: لا أفعل هذا، إلا بعد أن ترد لى تلمسان.

فقال الجنرال: تعلم جيداً بأني لا أقدر على ردها لك، إلا بعد تصديق الملك علىالمعاهدة.

فأجابه الأمير: فإذاً ليس لك قوة على إجراء المعاهدة.

فقال الجنرال: نعم لي قوة على ذلك. ولكن يقتضي أن يصادق الملك على ما أجريه،حيث يكون ذلك كفالة له، فإنه إذا صودقعليها مني فقط، ثم أتى جنرال آخر، فإنهيقدر على أبطالها. وأما إذا صدَّق عليها من الملك، يصير كلُ ملتزماً بالإجراء على موجبها.

فأجابه الأمير: إن لم ترجع لي تلمسانكما وعدتني في المعاهدةفلا أرى احتياجاًالإجراء الصلح. حيث لا يكون ما جرى، إلَّا من قبيل هدنة مؤقتة.

فقال الجنرال: هذا صحيح، ولكن أنت تكسب بهذه الهدنة، حيث بمدَّتها لا أضربالمواسم ،

فأجابه الأمير: ذلك لا يضرّنا، حتى إني أعطيك الرخصة، بأن تخرب كل ما تقدر عليه. ولايمكنك أن تخرب إلَّا مقداراً زهيداً. ومع ذلك، يبقى عند العرب حبوباً وافرة.

فقال الجنرال: أظن أن العرب لا يفتكرون مثلك لأنني أرى أنهم يرومون الصلح.والبعضمنهم أثنى عليَّ، لكوني حافظت على المواسم، من نهر الشفة إلى هنا، كما وعدت بذلكحمادي السقال.

فتبسم الأمير ثم سأل الجنرال عن المدَّة، التي يمكن رجوع الجواب فيها من فرانسا،فأجابه الجنرال: إنها لا تكون أقلّ من نصف شهر.

فقال له الأمير: حيث إن الأمر كما ذكرت، فلا نجدد العلاقات التجارية، ولا نحدث شيئاًمن مقتضيات المواصلة، إلا بعد ورود الجواب من فرانسا ثم قاما من مجلسهما، وودع كل منهما الآخر. وهذه المقابلة كانت أول مقابلة جرت بين الأمير وحاكم فرنساوي.

وقد أخبرني ابن رابح أحد ضباط الفرسان، الذين كانوا يومئذٍ في حرس الأمير، أنه عندماوقف في مجلسه لوداع الجنرال، قرِّب إليه فرسه الأدهم الشهير ليركبه. وبعد أن صافحالجنرال ونزع يده من يده، التفت إلى الفرس،وعلا عليه في اقل من لمحة.وحركةبركابه، فمرق بين الخيل مروق السهم.

واندفع به ثلاث دفعات متوالية، على وتيرة واحدة؛ فانبهر الجنرال لذلك. وتعجب منسرعة ركوب الأمير، وخفّة الفرس.

وبقي واقفاً برهة من الزمان، ينظر نظر المتحير. ثم ركب فرسه ومضى، وبعد أن صارالأمير وجيوشه، على مسافة بعيدة من الموضع الذي كان الاجتماع فيه.أمر الجنرالأحد ضباط عسكره، أن يرجع إلى المحلِّ. ويأخذ مساحة ما بين تلك الدفعات الثلاث. ووضع لها علامات. فبلغني: مساحة ما بين كلّ منها تقرب من ثلاثين ذراعاً.

المصدر : تُحْفَةُ الزَّائِرِ، المَخْطُوطَةُ المُتَحَفِيَّةُ المُهْدَاةُ إِلَى السُّلْطَانِ عَبْدِ الحَمِيدِ.

Screenshot

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى