ولَئِنْ كانت الشُّعوبُ تُفاخِرُ بِدوَلِها، وتُباهِي بِقِدَمِ مولِدها،وتَتغنَّ بالرِّجالِ الأفذاذِ من أبناءِ أُمّتِهِم الذين أشادوا هذا البُنيان العريق…
هذه الدّولةُ الحديثةُ التي أرسى قواعِدها الأمير عبد القادر تشهدُ بِقيامِها المُبَكِر انتصاراتُ الأميرِ في حروبهِ سبعةَ عشْرَ عاماً،وحتى بعد
أن هزمته، واقتلعته فرنسا عن عرشه فقد غدا اسمُه مُرتبطاً بِزُعماءِ العالم ِفي عصرهِ من سلاطين بني عُثمان إلى الملِكةُ فكتوريا، ونابليون الثالث وقياصِرة روسيا وأبراهام لينكون والفاتيكان وغيرهم مِمَّن يقف عليهم مَنْ يقرأُ تاريخَ، الأميرِ والجزائرِ،ومن هٰهُنا وَهَبَ الأميرُ وطنَهُ الجزائرَ ثراءً تاريخياً وطنيّاً عَزَّ نظيرهُ مقارنةً مع زعماءِ العالمِ الإسلامي الذين لم يكن لهم ما كان للأمير الذي تعدَّدتْ مواهِبُهُ في البَسَالةِ، والشّجاعةِ، والسِّياسةِ، والحنكةِ، والدّهاءِ، والعِلمِ، والفِقهِ، لِتقرُّ الأمم المتّحدة على أنّه رائدَ القانون الإنساني،والأبُّ الرُّوحيُّ لاتفاقيّةِ جنيف في حقوقِ الأسرى وغير ذلك مِمّا شَهِدَ له فيه عدُّوهُ قبل صديقهِ، قال السّريُّ الرَّخاءُ:
وطيحَةٍ شَهِدَتْ لها ضرّاتُها
والفضلُ ما شَهِدتْ به الأعداءُ…
🔸-الدَّوْلَةُ وَفْقَ القانونِ الدُّستوري: مَجموعةٌ من الأفرادِ يُمارسونَ نَشاطَهُم على إقليمٍ جُغرافِيٍّ خَاضِعٍ لِلتّمَدُدِ، والتّطور تِبعاً لٍظروفِ المكانِ، والزّمانِ ولِلدّولةِ أشكالٌ مُختلِفةٌ، فمنها مُوحدةٌ، وناشئةٌ، واتِّحادِيّةٌ، ومُركبّةٌ، وبسيطةٌ…
والدستور كمصطلحٍ غربيّ النّشأةِ في بلادِ المُسلِّمين لمْ تأْلفه دولُ القرنينِ الثّامن عَشَر، والتّاسِع عَشَر، وإنْ كانت الدُّولُ تُؤسٍّسُ عقدها الاجتماعيِّ الحديثً على مِنوالِ منهجِ الدُّولِ الإسلاميّةِ بِدستورِها المُعتادِ من الأُموييِّن إلى العُثمانييّن، ولهذا عُلماءُ القانون السِّياسيِّ اعترفو أنّ مُحمّد عليّ باشا مؤسِّسُ دولة مصر الحديثةِ،مع أنّها لم تكن مُستقلّةً عن الدّولةِ العثمانيّةِ، والعقدُ الاجتماعيّ بتأسيسِ الدّولِ، وقيامِ الحكومةِ له معاييرٌ مختلفةٌ تجري عبر المبايعةِ، والشُّورى، والقضاء،ثمّ يجري إنشاء دواوين الحكم كما حدثَ في دولةِ الأمير عبد القادر تِبعاً لإمكاناتها، وحُفِظت في مبنى( دارُ الحُكمِ) في العاصمةِ(مدينة مُعسكر)…
وقد تعرَّضتْ لِلنّهبِ، والحَرقِ على يدِّ قواتِ الاحتلالِ الفرنسيِّ مرَّتيّنِ:
📍-الأُولى: حين كان الأميرُ مُنشَغُلاً بِحربٍ ضاريةٍ مع الدُّوق أورليان، وليّ عهد الملك الفرنسي فيليب في منطقة (كاشرو)، إذ التّفت فرقةٌ فرنسيّةٌ يقودُها الجِنرالُ كلوزيل حولَ الجبال عام 1836م، وقد أخليت العاصمة معسكر من الأهالي، ثمّ دخلت المدينةَ بعد مُقاومةٍ، فأضرمتْ النِّيرانُ في مبانيها مدة يوميّنِ، فالتهمت الوثائقَ، والمُستنداتِ الحُكوميّةَ، و منها العقدُ الاجتماعيُّ الذي شكلّ الأمير السُّلطة الحكوميّة بِموجبهِ…
📍-الثّانية: تعرّضت العاصمةُ معسكر لحملةٍ كبيرةٍ قادها بيجو عام 1842م إذ قسَّمَ حشودَهُ إلى ثَلاثِ فِرَقٍ، واحِدةً ترأسَها،هو والثّانية بِقيادة الجنرال شانكريني، والثّالثة تولّى قيادتها الجنرال لامورسيير؛ استولت الفِرقُ الثّلاثُ على المُدنُ، وأعملت فيها القتل، والنّهب، والتّخريب، والهَدم، ولمّا رأى الأميرَ تواترَ سُقوط المدن، والحواضر اتخذّ عاصمةً كبيرة ً مُتنقِّلةً يُدبرُ منها العملياتِ الحربيةَ، وشُؤونَ الدّولةِ…
إنّ ما فعلته الآلةُ الحربيةُ الفرنسيّةُ الظّالمةُ من حرقِ آثارِ الدّولةِ الجزائريةِ،وإتلافِ محتوياتِ خزائنها؛ جعل الجزائريين حتّى عام 1875م بلا وثائق، ولا سِجلات رسميّة شرعيّةٍ، وحديثةٍ، ولهذا نجدُ أوَّلَ سِجلٍ مدنيٍّ في الجزائرِ قد صنعه الاحتلالُ بعد هذا التّاريخ،ومِن جراءِ هذا الضّياع، والعبث لجأتْ ذريةُ الأميرِ إلى دوائر القضاء الجزائري لاستخراج شهادة ميلاد الأمير عبد القادر عبر حُكمٍ قضائي صدر عام 2019م…
ومن غير المعقول انتزاعُ صفة الدّولة لِخلُّوها من دستورٍ، فثمّةُ دولُ معترفٌ بها عالمياً منذ عقودٍ طويلةٍ لها عقدٌ اجتماعيٌّ خاصٌ بها، لِتُسيِّرَ شؤونَ الدّولةِ التي تستنبطُ قوانينها، وأحكامها من روحِ الشّريعةِ الإسلاميّةِ السَّمحاء…
الدُّولُ المُجاورةُ للجزائر إبّانَ حُقبةُ دولة الأمير لم يكن لها دساتير، كالمغرب الذي كان أوّلُ دستور شفهيٍّ له عام 1908م والثّاني، وهو الرّسميُّ، نجزت صياغتُهُ عام 1962، أيْ كانت الجزائر سّباقةً بِوضعِ الدُّستور عن المغرب بعقدها الاجتماعيِّ منذ تأسيس الأمير دولة الجزائر الحديثة…
والدّولةُ العثمانيّة، وهي إمبراطوريّة عُظمى تحت رايتها دولٌ كثيرةٌ أوَّلُ دستور لها كان 1875م بإشراف السُّلطان عبد الحميد الثّاني…
وليبية أوَّل دستور لها 1951م تحت إشراف الملك الراحل إدريس السّنوسيّ، فهذا يعني أنّ جُلّ الدُّول الإفريقيّة لم يُؤسّسْ لها دستور في القرن التّاسع عَشَر،أمّا دولةُالأميرِ فقد أبرمت المعاهدات،والاتفاقيات، وأنشأت الجيوش، وعينت السٌّفراءَ، والوزراء، والولاةَ، وابتكرت الجباية، وشيّدت المصانع، وصكّت عملةً نقديّةً خاصّةً بها، أوَ ليستْ هذه مُقوّماتُ الدَّولة الحديثة…
وكانت أولى خطوات الأمير في بناء الدّولة إنزال الرّايات الحمراء العُثمانيّة،وَ رفعَ في موضِعها علم الدولة باللون الأخضر والأبيض،و التاريخ كباقي العلوم يستند على حقائق علمية ثابتة من خلال الأدلة الأثرية الماثلة للعيان،فلو زُرتَ مكتبة دار الأمير عبد القادر في حيِّ العمارة في دمشقَ لرأيتَ صورةَ العلمَ الجزائريِّ منحوتةً على جُدرانها، إذ كان الأميرُ مسكوناً بمآثر دوليّة حتّى في منفاه،وتعمَّد الأميرُ وضعَ غمدَ العَلَم الجزائريِّ على أطول ساريةٍ في مكتبته، وصغّر الرّايات الأُخرى أمامَ الرّاية الجامعة للوطن كلِّه التي تُعطيهِ هُوّيته السّياسية، والثّقافيّة، والفكريّة…
وقد سعت سابقاً مؤسّسةُ الأمير عبد القادر الدَّوليَّة في دمشقَ إلى تقديم طلبِ إلى المديريّة العامة للآثارِ، والمتاحف في وزارة الثّقافة السُّورية لتثبيت هذا الأثر النّفيسِ،ليكون وثيقةً دامِغةً، وإعطاء تقرير خبرة فنية رسمية عن المدَّة الزّمنيّة لهذه النقوش الأثرية المادّيّة النَفيسة …