📍- لمحة عامة ذات صلة بالموضوع،
جمعت الدولة العثمانية إبان حقبتها مُسمَّيات عديدة كالإمبراطورية والخلافة والسلطنة والدولة العلية، وبغضِّ النظر عن الجدل الدائر حول هذه التسميات فهذا هو الماضي والتاريخ ،ومما لا شكَّ فيه أن الدولة العثمانية كانت تحكم مساحة كبيرة من العالم،ويريد البعض الشكُّ في شرعية هذا الحكم، فمنهم من عدَّه احتلالاً للبلدان ،ومنهم مَن عدَّه حُكمًا شرعيًّا بواقع أن رمزية الخلافة الإسلامية قد آلت إلى العثمانيِّين بعد سقوط الخلافة العباسية في بغداد على يد المغول، وعدم قدرة الإمارات التي قامت في مصر والشام وغيرهما على حكم العالم الإسلامي، وإحياء رمزية الخلافة، ولعلَّ إنكار الخلافة العثمانية هو ثمرة طبيعية لمشروع سايكس بيكو،الذي من غاياته فتح أبواب إنكار الخلافة العباسية وقبلها الأموية وقبلها الراشدة على أنها ما هي إلا دعوات باسم الدين لتغطية الغاية الأساسية،التي خرج من أجلها العرب والمسلمين من حدود جزيرتهم، والمتمثلة في استعمار البلدان والشعوب…
1🔴- كانت حرب القرم في عام 1853م مصيرية، لأنها حالت دون سقوط الخلافة العثمانية حينها، وأسباب هذه الحرب وكواليسها يطول شرحها، وكان سببها المباشر مسيحيو الشرق في فلسطين ولبنان، والصراع المذهبي المسيحي الأرثوذكسي الكاثوليكي، وأسباب أخرى كثيرة اجتمعت تبعاتها حينها في ظل معاناة الخلافة العثمانية في مرحلة الضعف وبداية النهاية…
🔺- وجراء تربُّص الإمبراطورية الروسية المحاذية لها اضطرَّت الخلافة العثمانية إلى التحالف مع فرنسا وبريطانيا عسكريّاً وسياسيّاً، حيث اجتمعت حينها المصالح الاستراتيجية في مشهد متناقض وفريد في التاريخ الحديث والقديم ليتبدل الحال بعد التحالف هذا، وتأتي الحرب العالمية الأولى بعد خمسين عامًا من حرب القرم، لتنقلب الموازين إلى تحالف روسيا وفرنسا وبريطانيا في سنة 1914م ضدَّ ألمانيا،التي وقفت إلى جانبها السلطنة العثمانية وآزرتها بجيوشها…
🔺- وكان من الأسباب الرئيسية التي أدت إلى دخول السلطنة العثمانية الحربَ العالمية استيلاءُ
الطورانيين،وهم حركة القومية التركية،على مفاصل السلطة، بقيادة وزير الحربية أنور باشا، حيث قام هؤلاء بكسر هيبة السلاطين،في اعتقال السلطان عبد الحميد الثاني ونفيه، ووضع السلطان محمد الخامس كواجهة صورية لا عمل له، وألعوبة بيدهم، ليس له أيُّ صلاحيات، فكان من نتيجة ذلك أن غرقت البلاد في الفوضى الداخلية، لا سيَّما بعد تولي الانقلابيين، الذين أغرقوا الأمة في الحرب العالمية الأولى، وتورَّطوا في مجازر إنسانية داخلية، فأعطَوا بنهجهم هذا لقوات التحالف ذريعة لاحتلال إسطنبول عام 1918م حيث سقطت الخلافة والسلطنة فعليّاً…
2🔴- أسباب اللَّغط في علاقة الأمير مع فرنسا:
إن الذاكرة الحالية للأجيال في الجزائر تحتفظ بآخر الأحداث، التي شهدتها البلاد في معركة الاستقلال عن الفرنسيين، وقبلها حرب الفرنسيين مع الخلافة العثمانية في الحرب العالمية الأولى، وفي كلا الصورتين تظهر فرنسا على أنها قوة إحتلال، ذات سجلّ حافل بالجرائم،وهو واقع صحيح ،ولذلك فإن الأجيال يتخيَّلون أن فرنسا التي في أذهانهم هي ذاتها ما كانت عليه في عهد نابليون الثالث، فلا يستسيغون وجود علاقة تربط الأمير عبد القادر بفرنسا، في أي حقبة،وحقيقة الأمر أنه في حقبة نابليون أصبحت فرنسا مختلفة، حيث أفرج عن الأمير بعد معاناة طويلة في السجن، بكفالة الخليفة عبد المجيد، وأقام تحالفًا جديدة مع الدولة العثمانية، وعلاقات ثقافية وسياسية متينة، على عكس ما تتصوره الذهنية النمطية لدى البعض، بل حمت فرنسا بقيادة نابليون الخلافة من السقوط في حرب القرم،وهي حقبة تُعَدُّ طفرة فريدة من نوعها، خدمت مصالح الطرفين…
🔺- والعامل الثاني للخلط تعمد البعض ولا سيما الموالين لفرنسا سرا وباطنا بانتهاج أساليب عدة لدفع الشبهة عن أنفسهم على مبدأ ، رمتني بدائها وانسّلت”؟
ومن فنون وجنون الارتياب،إنكار الحقائق الواضحة عبر الهوس بنظريات المؤامرة الواهية، تَجَسَّد هذا كله في ثقافة ما بعد استقلال الجزائر عن فرنسا، عبر إظهار الرياء اللفظي بالعدواة لفرنسا، كمقدمة لافتتاح أي حديث في التاريخ متغافلين عن الوقائع، إذ لولا التحالف الفرنسي العثماني لما فُكَّ أسر الأمير عبد القادر من سجنه أصلاً، وصداقة السلطان عبد المجيد ونابليون وتبعاتها فرضت صداقة الأمير لنابليون، فعلينا إدراك أن علاقة الأمير بفرنسا نابليون حينها منوطة بتلك المعادلة، وذِكر علاقة الأمير بنابليون على مبدأ اجتزاء الأحداث عن سياقها الدولي يعطي المفترين ذرائعَ واهية، يُراد منها وضع الأمير في موضع الشبهة، وكأنه كان في زمانه منفردًا عن عامة أمراء الإسلام بتلك العلاقة، وكأنه أول من ابتدعها أو بدأها، على حين أنها كانت تحصيلَ حاصل، ولم تكن من كلِّ النواحي في صالح الأمير، لا سيما أنه وجد نفسه بعد خروجه من السجن مكبَّلاً باتفاقيات الخلافة الإسلامية مع فرنسا، وهو لا حول له ولا قوة إلا الصبر وتجرُّع المرارة …
⁉️- وقد يستغرب الكثير،أو يتهم الخلافة العثمانية بالسوء لتحالفها مع فرنسا في العام 1853م وهي التي احتلت الجزائر قبل ذلك بعشرين عامًا، مع أن الجزائر كانت من ممالك الخلافة العثمانية…
🔺- والجواب الواقعي هو من الحقائق المطموسة، وهو أن تلك الحقبة كانت شديدة التعقيد، وتفاصيلها غائبة عن الناس، وما حصل فيها من معاهدات واتفاقات يصعب تفسير دوافعها وفهم نتائجها، ولا سيما أن إحدى المعاهدات بين فرنسا والسلطنة العثمانية بلغ بها أن أعطت لفرنسا الحق في تأديب ولاة الجزائر، إذا أساؤوا التعامل معها …
📍- أولاً: كانت حكومات الجزائر في القرن التاسع عشر أشبه بما نسميه اليوم بالفدرالية، تحكم نفسها بنفسها تحت راية دولة كبيرة، وليس كما الصورة النمطية في أذهان أغلب الجزائريين، أن الجزائر كانت محطَّ أنظار الباب العالي بشكل آني ويومي، إن وقعت فيها مصيبة فقد لا ينام أعضاء حكومة الباب العالي حتى تُحَلَّ، ولكن اختلف الأمر في القرن التاسع عشر، فلم تعد الجزائر تحظى محلَّ اهتمام السلطنة العثمانية مطلقاً، وبلغ الأمر في بعض الأوقات أن كانت حكومة الأستانة لا تعرف حتى أسماء الولاة في الجزائر، فقد كان يترأس الحكومات الجزائرية بايات وهم رجال من سلالات الضباط في الجيش الانكشاري،الذين تعاقبوا عليها وتوالدوا فيها،والجزائر كانت الأبعد جغرافياً عن إسطنبول …
📍ثانيًا: في القرن التاسع عشر كانت السلطنة تسمى حينها بالرجل المريض، وكانت على شفير الانهيار، جراء الفتن الداخلية في الولايات العثمانية، فلم تعد لها قدرة على لملمة الجراح في أطراف جسدها، أو التحرك عسكريّاً، كما كان الشأن في القرون الثلاثة الأولى للحكم العثماني في الجزائر، حيث كان أسطول الحكومة الجزائرية، مع قلة عدده وعتاده، له اليد الطولى في البحار المتاخمة لسواحلها، حتى إن هولندا وفرنسا وأمريكا وإنكلترا كانت تدفع الإتاوات لحكومة الجزائر، لتستأمن طريقها في البحر المتوسط…
📍ثالثاً: أبرز المعاهدات التي كبَّلت السلطنة العثمانية مع الغرب معاهدة مع فرنسا، عقدها السلطان محمود خان الأول، تنص على أن لدولة فرنسا أن تقاتل الولايات الغربية للسلطنة، حال اعتدوا عليها أو أساؤوا إليها، ولا يُعتبر ذلك من باب الإساءة في حق عظمة السلطان العثماني…
🔺- ولهذا عند اندلاع الأزمة بين باي الجزائر وفرنسا سعى السلطان محمود خان وأرسل رسلاً ومكاتيبَ، يُقبِّح فيها فعل الداي الشنيع، وطلب منه أن يعتذر عما فعله في إهانة قنصل فرنسا، فلم يلتفت الباي حسين أصلاً إلى غضب السلطان وتوجيهاته ،بل أهان رسلَه واعتقل أحدهم في إحدى المرات ،وبعد فشل مساعي الباب العالي للتهدئة، بلغ بالسلطان في مشاوراته التفكير في إرسال جيش لتأديب الباي عسكريًّا، واعتقالهم وجلبهم الى الآستانة،لكنه عجز عن ذلك لانشغاله في حروب اليكنجرية وحروب المسكوف…
نستخلص منه انقطاع الوفاء من بايات الجزائر للسلطنة العثمانية، بعد أن استقلوا بأنفسهم، وانقطع حبل الاتصال بيـنهم وبـين الخلافة، إلا بخطبة الجمعة، يفعلون ذلك ليرهبو السكان في الجزائر بأن وراءهم جيش السلطنة الكبير، وأن المدد منهم جاهز عند الطلب، على حين كانوا طغاة متمرِّدين على كل التعليمات السلطانية، انفردوا في حكومات محلية، ومن عجائب سيرتهم أنهم صاروا يولون الوالي مدة، ثم إذا شاؤوا قتلوه وولَّوا غيره، ومما اتفـق لهـم أنهـم في يـوم واحـد ولَّوا سبعة ولاة، ينصبون واحداً ثم يعزلونه ويقتلونه، ففسد الإقليم برمته في آخر خَمسِينَ عامًا، وانطبقت عليهم القاعدة التي تقول إذا حكم العسكر، من دون سلطان أو ملك، يكونون كالضباع المذعورة، تأكل الأخضر واليابس، فلم يعد في سلوكهم مكانٌ للسياسية، ولو التزموا بما أمرهم به الخليفة إبان أزمة الديون مع فرنسا لما أعطَوا الذريعة لفرنسا لاحتلال الجزائر…
🔶-إذاً نستخلص الحقيقة من التاريخ أن بايات الجزائر، في القرن التاسع عشر،لم يكونوا جزءاً من حكومة الباب العالي، وقد فنَّد ذلك جليّاً أخو الأمير في “نخبة ما تسر به النواظر”، وهو نفسه عاش في كنف الخلافة العثمانية إبان المنفى، وتربطه علاقات شخصية بأركان الدولة العلية، وكذلك فنَّد نجلُ الأمير الفريق في الجيش العثماني محمد باشا هذه الادعاءات في “تحفة الزائر”، ومنه نتدبَّر ونفهم لماذا كان استسلام حكومة الجزائر للفرنسيين في ذلك الصمت والشكل اليسير، ولولا مبايعة الجزائريين الأمير، الذي أسس الدولة الجزائرية الحديثة وجعل أركان ساستها محضة من أقحاح الجزائر، بعد قرون طويلة من تولي حكوماتها من خارج الجزائر، ولولا أن الأمير لم يستبسل في المقاومة وطول المدة التي واجه فيها فرنسا، والتي أثارت ضجيجًا عالميًّا من أمريكا حتى الهند، لكان احتلال فرنسا للجزائر مر مرور الكرام، دون أي ضجيج يُذكر على الصعيد الدولي، ولا ننسى أنه بعد هزيمة الأمير بقيت الحياة قرناً من الزمن تسري بهدوء، دون أي ضجيج دولي…
🔺حربُ القرم و الأمير عبد القادر…
3🔴- انتهت حرب القرم بفوز العثمانيين والفرنسيين، وهزيمة الروس، وتوقيع اتفاقية باريس عام 1856م، التي وضعت نهاية لحرب القرم، التي دارت رحاها ثلاث سنوات، وأما الأمير فكان موضعه في حرب القرم مؤيداً لفوز الخلافة العثمانية،وقد أهدى قصيدة لخليفة المسلمين، يدعو الله فيها أن يؤيِّده بالنصر، مستشهداً بأهل بدر، يقول:
📜- يا ربِّ يا ربِّ يا ربَّ الأنام ومَن
إليه مَفزَعُنا سِرّاً وإعلانا…
يا ذا الجلال وذا الإكرام مالكَنا
يا حَيُّ يا مُولِياً فضلاً وإحسانا…
يا ربّ أيِّدْ بروح القدس مَلجأنا
عبدَ المجيد ولا تُبقيه حيرانا…
وجَّهتُ وَجهي، أنِلْني ما دعوتُ به
بأهل بدرٍ حماة الدين …
القصيدة مرفقة بالمقال
4🔴- وأما رأيُ الأمير عبد القادر في مُشاركة فرق جزائرية عسكرية في حرب القرم تحتَ لواءِ فرنسا…
📍نستنبضُ موقفه من صمته في المصادر كلها تجاههم وتجنبه التلميح إليهم،في قصيدة السلطان عبد المجيد ،مما يدل على حزنه على حاله وحال أبناء شعبه في قتالهم تحت راية مصالح فرنسا الدولية،ولكن لم يكن له حول ولا قوة،بعد أن اعتزل السياسة جملة وتفصيلاً …
🔺المصادر الأساسيَّةالتي استند إليها المقال…
1-📌{تُحفةُ الزّائر}: هو المصدر الأمُّ للمقياس الصحيح في مواجهة المراجع والمصادر التّاريخية فيما يخص سيرةالأمير عبد القادر …
2-📌 نُخبة ما تُسَرُّ به النّواظر، وأبهج ما يُسَطَّر في الدفاتر ” الذي يشتمل على ترجمة مكثَّفة منتزعةٍ مِنْ موسوعة تعطير المشامّ في محاسن دمشق الشّام للشيخ جمال الدين القاسميّ…
3-📌حلية البشر في تاريخ القرن الثالث عشر لمؤلفه الشيخ عبد الرزاق بن حسن بن إبراهيم البيطار الميداني الدمشقي …