جودت الهاشمي شيخ المُربين الدمشقي المولد والجزائري الأصل…
هو أحمد الحسني الجزائري، المعروف باسم جودة الهاشمي، وُلد في دمشق عام 1887م، من أبوين جزائريين، وانتقل إلى جوار ربه في شهر شباط من عام 1955م، إثر إصابته بنوبة قلبية، بدأ المربي جودة الهاشمي تعليمه في سن مبكرة في حضرة الشيخ سعيد الشريف، لحرص والده الشديد على تعليمه، وعندما لمس أستاذُه تفوُّقَه اصطحبه مع عدد من الطلاب المتفوِّقين إلى إسطنبول، وهناك تبنَّت الدولةُ تدريسَه، وخصَّته بمقعد في دار الشفقة عام 1899م، وكان في الثانية عشرة من العمر حين أثبت تفوُّقَه في الرياضيات، فعدَّلوا اسمه وجعلوه أحمد جودة الرياضي، تعبيراً عن إعجابهم به وتقديراً لتفوقه، وقد عُرف فيما بعد ذلك باسم جودة كما هو مسجل بالسجل المدني،
أنهى دراسته الثانوية في إسطنبول بتفوق كبير على جميع الطلاب الأتراك والوافدين من كافة أنحاء الدولة العثمانية، فأوفدته الدولة إلى فرنسا للدراسة في جامعاتها، فأنهى دراسته الجامعية في الرياضيات بتفوق أيضاً عام 1913م.
وبعد تخرُّجه في فرنسا عاد إلى إسطنبول، فخيّرته الدولة بين العمل في تركيا مدرساً للرياضيات، أو في أحد البلاد العربية، فلم يتردَّد في طلب العودة إلى دمشق، للمساهمة في رفع مستواها العلمي، كما عُيِّن مدرساً في مدرسة المقاصد الخيرية في بيروت لمدة سنة، وفي مدرسة الصلاحية في القدس، وبعدها عاد إلى دمشق بعد جلاء القوات التركية من سورية عام 1918م، فعُيِّن أستاذاً لمادة الرياضيات في مكتب عنبر، وكانت يومها الثانوية الوحيدة في دمشق، ثم عُيِّن مديراً لمكتب عنبر، وسعى لدى الدولة من أجل إنشاء مدرسة ثانوية نموذجية، فأُنشئت مدرسة التجهيز الأولى التي أُسندت إليه إدارتها، إضافة إلى تدريسه الرياضيات فيها، وهي الثانوية الكبرى، التي أُطلق عليها اسمُه جودة الهاشمي بعد رحيله.
عُيِّن جودة الهاشمي مديراً للتعليم الابتدائي، ثم عُيِّن مديراً للتعليم الثانوي، ثم أميناً عاماً لوزارة المعارف، وأُحيل بعد ذلك على التقاعد بعد أن بلغ السنَّ القانونية، ومُنح وسامَ الاستحقاق السوري عام 1949م،
ألَّف الهاشمي عددًا من الكتب في الرياضيات بكافة فروعها، والدافع إلى ذلك أن المستشار الفرنسي لوزارة المعارف، أيام الانتداب الفرنسي على سورية، كان يحاول فرض تدريس الرياضيات باللغة الفرنسية، بدلاً من اللغة العربية، زاعماً أنه لا يوجد في اللغة العربية مصطلحات كافية في هذا المجال، كما أنه لا يوجد فيها كتب للرياضيات، كان يفعل ذلك تمهيداً لفرض تدريس جميع مواد التعليم باللغة الفرنسية، وقد تعاون الأستاذ الهاشمي يومها مع عدد من الأساتذة للوقوف بوجه هذا التيار المدمر، وأخذ على عاتقه ما يتعلق بالرياضيات، وقد انصرف إلى دراسة المصطلحات التي استعملها العرب في العصور القديمة، فاستقى منها ما استطاع وعرَّب ما استُحدث فيما بعد من تعابير، وأصدر سلسلة من كتب الرياضيات لكافة الصفوف الثانوية.
وقد ذكر الأديب والباحث عبد الغني العطري، في كتابه عبقريات من بلادي، الكثيرَ من مواقفه الوطنية والإنسانية، وممّا قاله: “في حياة الأستاذ الهاشمي مواقف وطنية كثيرة جديرة بالوقوف والتأمل؛ فخلال الثورة السورية عام 1925، وعقب معركة حامية مع الفرنسيين قرب مدرسة عنبر استشهد فيها من استشهد، لجأ اثنان من الثوار إلى المدرسة تحت جنح الظلام، وكان جودة الهاشمي يومئذ مديراً لها، ويتفقَّد أمورَها في الليل، فقام بإخفائهما بنفسه في غرفة تقع فوق غرفته على سطح المدرسة، وكان أحدهما جريحاً، فأخذ يقوم على خدمتهما أيضاً، وحرصاً منه على عدم تسرُّب أمر وجودهما في المدرسة إلى أحد، استطاع بعد أيام تأمين عودتهما إلى قاعدتهما، عن طريق سطوح المنازل الملاصقة للمدرسة”.
من روائع وطنيته ورحمته بالطلاب معاً أنه ذات يوم جاء رجال الأمن إلى مكتب عنبر، وكان مديراً له، وطلبوا تسليم أحد الطلاب الوطنيين، وكان ذلك يوم الخميس، فأجابهم أنه لا يسمح باعتقال أي طالب داخل المدرسة؛ إذا شئتم اعتقلوه خارجها، وكان الطالب داخليّاً، ممَّن يبيتون في المدرسة طوال أيام الأسبوع، والعادة أنه تُتلى أسماء المعاقبين من الداخليين بالحرمان من الخروج يوم الجمعة، بعد آخر ساعة من ساعات دوام يوم الخميس، فإذا بالمرحوم جودة الهاشمي يضيف إلى قائمة المحرومين اسم ذلك الطالب الذي تعجَّب من تلك العقوبة، التي لم يَعرف لها سبباً، وقد أصر الطالب أن يعرف السبب الذي لم يُكشف عنه إلا بعد أن سوى الهاشمي أمر التوقيف واستردَّه.
لقد كان أحد العباقرة ممن تتحدث عنهم بلاد الشام بالفخر والاعتزاز، كما يتحدث عنه ويُشيد به كلُّ مَن سمع به أو عرفه في الجزائر، موطن آبائه وأجداده.