مخطوطة :نخبة ما تسر به النواظر وأبهج ما يُسطر في الدفاتر للعلّامة المُفتي أحمد بن مُحيي الدين أخي الأمير عبد القادر الأصغر…
وفدَ على الأمير أحمدُ بن السلطان عبد الرحمن، سلطان مراكش، الذي كان وقع بينه وبين أبيه ما وقع. وسببُ وفوده عليه هو أنه بعد أن توفِّي أخوه السلطان محمد، الذي تولَّى المُلك والسَّلطنة بعد أبيه،وتولَّى ابنُه العباسُ، وقعتْ بينه وبين ابنِ أخيه بعضُ المُنافرة، فخرج بسبب الشحناء التي حدثت بينهما من جميع المغرب الأقصى، وقصدالدولة العثمانية، فأكرمته وأحسنت إليه،كما هي عادتها مع جميع من يقصدها من أولاد الملوك أو غيرها من ذوي البيوت المحترمة، وعيَّنَت للمذكور مرتَّبًا شهريًّا، ثم تعسَّرت عليه بعضُ المصالح الضرورية،فأشار عليه بعض أصدقائه بأن يقصد الأمير،فإن له الجاهَ العظيم عند رجال الدولة العثمانية، فجاء إليه ونزل عندَه،فتلقَّاه بالترحيبوالتكريم والاحترام والتعظيم،وسعى له في قضاء مصلحته شكرًا لله على ما مَنَّ به عليه من جزيل فضله، حيث أحوَجَ إليه عدوَّه الذي كان باذِلاً نهاية وُسعِه في قتله وتشتيت شمله وتفريق جمعِه، وإظهارًا لكمال إنسانيته…
وقد كان الأميرُ رآه يوم محاربته له المحاربةَ الأخيرة، وهو متقدِّمٌ أمام جيوشهم،شاهرًاللسلاح، مُشمِّرًا عن ساق الجدِّ للكفاح،ومُحرِّضًا لجماعته على التقدُّم، ومُحِثّاً لهم نهايةَالحَثِّ على التَّهجُّم…
والمذكورُ رجلٌ مَربوعُ القامةِ، أسودُ اللون كأبيه، وجميع طائفته الفيلاليين، وكذلكلقرب بلدتهم تَفَيْلَالَت من قُطر السودان، ولِغَلَبةِ تسرِّيهم بالإماءِ السُّود، وتزويجهم منبعضهم بعضًا، وإن كانت ولادتهم بمدينة فاس المحروسة المُجمِّلة للأبدان، والمُحسِّنةللألوان بالحمرة ونصاعة البياض، ولِما فيها من المياه المتدفِّقة والحياض وجميلالرياض، وقد تعجَّبْنا من كون المذكور ابنَ ملك،وهو لا يعرف من الأمور السياسية شيئًا،ولا يَظهَرُ عليه شيءٌ من أوصاف التمدُّن، ولا ما يُشعِرُ بالكمال وجميل الخلال والخصال،وأبصرناه عاريًا عن الأدب وحُسن الشمائل، وأظنُّه لم يحضر دروس العلم، ولا جالسأربابَه أصلاً، رديء الخط حتى كأنه لم يدخل المكتب إلا مدّة يسيرة، لا يملأ عين من يراه،ولا يتخيّل فيه أنه من أرباب العظمة والجاه، فما هو إلا كبقية عوام المسلمين، ثم لاندري هل كان في الأصل كذلك، أو أنه لمّا سلَبَتْه الرئاسةُ جميلَ ثوبها، وأعرضت عنهبمحاسنها، ذهبت عنه اللطائف بالكُلِّيَّة، ولم يبق له منها بقية، وقد رأينا كثيرًا من الناسمَن هو مستتر بثوب الغنى والجاه، وهو ناقصُ العقلِ ساقطٌ واهٍ،ولا ينكشف السِّترُ عنهإلا بذهاب ذلك الثوب الذي كان متردِّيًا به…
وكان سنُّ المذكور يومئذ مجاوزًا للخمسين، وعندما شاهدناه وجلسنا معه واختبرناه،ذهب تعجُّبُنا مما وقع منهم من التوحُّش والنقص المُدهش، وعدم الرِّقَّةِ والرَّأفةوالمَكرُمة والشَّفقة والرَّحمة بأخي أبي بكر وابن أخي السيد محمد الصادق، لَمَّا مُسِكافي المعركة، وأُتِيَ بهما إليهم، وأوقفوهما أمامهم، وهما عاريانِ مُمتهَنان مكشوفاالعورة، فلم يرحموهما ولا أمروا لهما بما يواريان به عورتَهما، مع معرفتهم بهما،وتحقُّقهم بنسبهما، وأنهما من ذوي البيوت المُعظَّمة المأمور شرعًا بإكرامهمواحترامهم والرِّقة لحالهم، وإن كانوا ليسوا بِمُوحِّدين، وما كان ينبغي لهم ولا يليقبمقامهم ولا يُستحسن أن تحملهم شدّةُ الغضب على الخروج عن الكمالات البشرية…
وملوكُ فاس ليس سَنَنُهم سَنَنَ بقية الملوك، فلا يُعلِّمون أولادَهم الآدابَ وحُسنَالخُلق، وإنما يتركونهم ونفوسَهم، فقد أخبرني من اجتمع بأولاد السلطان عبد الرحمن،أيّامَ قدومهم مكّة المشرّفة لآداء فريضة الحج، وفي صحبتهم العلامة الشيخ المهديابن سودة، بأنه رآهم في غاية من التكبُّر وإظهار الجلالة والعظمة، ثَمِلون بخمر الرئاسة،بحيث أنهم لا يحترمون من يستحق الاحترام والتكريم ولا يُعظِّمونه، ولو كان عالمًا أوشريفًا أو شيخَ طريقة، مع أنهم في غير بلادهم ومملكة والدهم وحكمِه، فلو نزَّلواالناسَ منازِلَهُم لما نقصَ ذلك من قَدرِهِم شيئًا، ولما زادهم ذلك إلا تعظيمًا ورَفْعَ قدر،وكان اللائقُ بهم أن يَتظاهروا بالكمال البشري، ويتركوا ظهورَ الجلالة والتكبُّر إلى بلادهمومحلِّ حُكمهم، ولا يَنظرون للناس أنَّهم عبيدٌ لهم…
وبما رأيناه من فعلهم وسوءِ سيرتهم عَلِمْنا أن الأمر لله، يُؤتي مُلكَه مَن يَشاء، لا لمعرفةأو كمال فِطنةٍ أو عظيمِ نباهة، وإنما ذلك مُجرَّدُ حَظٍّ وسابقةٍ أزليَّةٍ، ولذلك نرى الرؤساءَوبعضَ الملوك إذا عُزِلوا ذهبَ عنهم ما كان يَتراءى عليهم مِنَ الدَّهاء والهَيبةِ وكَمالِالعقل…
قيل: إنَّ الدنيا إذا أقبلت على شخص ألبسَتْهُ مَحاسِنَ غيرِه، وإذا أدبرَتْ عنه سلبَتْهمَحاسِنَ نفسِه. ولِبَعضِ الفُضلاء:
ولَو كانَتِ الدُّنيا تُنالُ بِفِطنةٍ وعَقْلٍ وفَضْلٍ نِلْتُ أعلى المَراتِبِ
ولكِنَّها الأرزاقُ حَظٌّ وقِسمةٌ بِفَضلِ مَليكٍ لا بِحيلَةِ طالِبِ