وهي مخطوطة مُوجزة ومكثَّفة عن سيرة الأمير المجاهد عبد القادر بن مُحيي الدين الجزائريّ، مُودَعة في موسوعة تعطير المشامّ في محاسن دمشق الشّام، للشيخ جمال الدين القاسميّ، وأهمُّ ما تتَّصف به المخطوطة أنها منزَّهة عن التزييف، ناطقة بالحقائق، اختطَّها أحد أولئك الجيل من أفذاذ الرجال، الذين لم يُعرف عنهم يوماً نفاقٌ أو تدليسٌ أو تملُّقٌ، وقد مضوا لا يخشون في الحقّ لومة لائم…
هذه المخطوطة التي نضعها بين أيديكم لعلَّها تُلْقي أضواءً جديدةً على سيرة هذا الرجل المجاهد الأمير عبد القادر، الذي مَلَأَ ذِكْرُهُ الخافقَيْنِ، وقد نسخناها من مخطوطة تعطير المشام، التي تُشبه أن تكون موسوعة أو مدوَّنة لتاريخ دمشق الشام ورجالها في القرن التاسع عشر، وأخرجناها وفق قواعد الإملاء المعتمدة في الوقت الحاضر، مع ضبط ما يحتاج إلى ضبطٍ، وشرح بعض المفردات التي تحتاج في تقديرنا إلى شرح.
وبهذا العمل تكون المؤسَّسة قد وضعت بين أيدي السَّادة، المهتمّين بتاريخ الجزائر ورجالها، النَّصَّ الحرفي لترجمة الأمير أحمد لأخيه الأمير عبد القادر، وهو نصٌّ عزيزٌ غير متاحٍ، ويمثِّل صفحةً ناصعةً من تاريخ الجزائر،ننشره بغبطةٍ وسعادةٍ وطنيةٍ غامرةٍ، إذ هذا النشر التاريخي جزءٌ من رسالة مؤسّسة الأمير عبد القادر الوطنية.
وكان قد سبقَنا إلى نشر هذه الترجمة الدكتور محمّد مطيع الحافظ، الذي استخرجها من موسوعة تعطير المشام في محاسن دمشق الشام، لمؤلِّفها الشيخ العلامة جمال الدّين القاسميّ (1866- 1914)، الذي كان من أبرز علماء دمشق في القرن التاسع عشر، وهو رجل موسوعيٌّ، مَذْهَبُهُ أصوليٌّ معتدلٌ، وله جملة من التصانيف المختلفة، أهمها موسوعة تعطير المشامّ، التي ضمنها مخطوطة نخبة ما تُسَرُّ به النواظر، وأبهج ما يُسَطَّرُ في الدفاتر…
– تعريف بالعلّامة المُفتي أحمد بن مُحيي الدّين، صاحب النخبة:
هو العلامة الفقيه المؤرِّخ أحمد بن محيي الدين بن مصطفى الحسنيّ الجزائريّ، وُلد في القيطنة معسكر عام 1833، وتُوُفِّيَ والده الإمام مُحيي الدين قبل أنْ يُتِمَّ سنتَه الأولى، ثم نشأ على طلب العلم، فحفظ القرآن الكريم، وهو صبيٌّ، وتلقّى تعليمَه على يد ثُلّة من علماء الجزائر، منهم الشيخ محمد بن عبد الله الخالدي الجزائريّ، وسمع من أخيه الأمير عبد القادر صحيحي البخاري ومسلم، ثمّ لمّا استقرّ به المقام في دمشق عام 1856 أتمَّ تحصيله فيها، وأخذ عن جملة من علمائها منهم: الشيخ محمّد عبد الله الخاني، والشيخ محمد الطنطاوي، والشيخ قاسم حلاَّق، والشيخ يوسف الحسني، والعلاَّمة المجاهد مصطفى بن التّهاميّ، إِمام المالكيّة في دمشق.
عندما سُجن الأمير عبد القادر في إمبواز بفرنسا كان الأمير أحمد معه، ثم لما أطلق نابليون الثالث سراح الأمير ورفاقه إلى بورصة، بكفالة السلطان الأشهب عبد المجيد خان، رُحِّلَ المؤلِّفُ وإخوتُه إلى الجزائر، لتشتيت شملهم…
يقول الإمام أحمد في كتابه النخبة: استحسن نابليون (الثالث) أن يُفرِّق بين الأمير وإخوته، فرحَّلهم من إِمبواز إلى الجزائر، وأسكنهم في مدينة بونة، ليجعلهم كالرهائن، ويُبقيَهم فيها، قَطْعاً لألسنة أرباب دولته، وتأميناً لهم، وتسكيناً لأفئدتهم، كيلا يحصل لهم (أي للفرنسيين) من الأمير أدنى مناكدةٍ أو تشويش، مع وجود إخوته تحت قبضتهم، وحسماً لما تعطيه أفكارهم من كون الأمير لا يصبر عن العودة إلى وطنه ومحل إمارته وعِزِّه، وأنه بمجرد خروجه للبلاد الإسلامية يرجع إلى الجزائر، وكانت أفكاره هو غير أفكارهم.
ثمّ طلبوا بعد ذلك الرحيلَ إلى تونس لمجاورة علمائها وفضلائها، فرفضت فرنسا طلبهم خوفاً من التفاف الناس في تونس حولهم، لعلمهم وفضلهم وجهادهم وأسبقيتهم في مقارعة الفرنسيين، وقد رأى الفرنسيون ترحيلهم إلى دمشق، إبعاداً لهم عن شمال إفريقيا، فكان أن التحقوا بأخيهم الأمير عبد القادر سنة 1273هـ – 1856م…
اشتهر أحمد أخو الأمير عبد القادر بعلمه وفضله في دمشق، فانعقدت له الدروس في جامع العنَّابي في حي باب سريجة الدمشقيّ بين العشاءَيْنِ، وتحلَّق النّاس حوله ينهلون من علمه الجمّ، إلى أن تُوفِّي عام 1902.
وله من المؤلفات:
1- الجنى المستطاب والزّبرجد المذاب، رسالة في السماع، وهي رَدٌّ على من ادّعى أنَّ سماع المعازف يُحرِّك القلب لربّ الأرباب.
2- شرح على الأبيات التي أوَّلها: فأثبتَ في مستنقع الموت رجلَه.
3- رسالة على قول الإمام عليّ ” العِلْمُ نُقْطةٌ كثـرها الجاهلون”، عنوانها «نثر الدر وبسطه في بيان كون العلم نقطة».
4- نخبة ما تُسَرُّ به النواظر وأبهج ما يُسَطَّرُ في الدفاتر، وهو كتاب موسع في التاريخ، انتزع منه الشيخ القاسمي سيرة الأمير عبد القادر، وأودعها في موسوعته (تعطير المشام).
مراجع للاستزادة:
– حلية البشر 1/304-305…
– منتخبات التواريخ لدمشق 2/704-705…
– أعيان دمشق 414-415…
– تعطير المشام 65-71…
– الأعلام الشرقية 2/72 و2/84 و4/177…
– الأعلام 1/255…
منهج العلامة المفتي المالكي أحمد بن محيي الدين فيما كتب:
امتاز منهج الأمير أحمد في كتاباته بالنقد الموضوعيّ، ومِنْ ذلك أَنَّه في عرضه سيرة الأمير عبد القادر انتقد مَوْقِفَهُ مِنْ والي تلمسان، الذي كان سبباً في سُقُوطِها، وكان يَرَى أَنَّ الأَوْلَى عَزْلُهُ لانفضاضِ النَّاس مِنْ حوله، ومن ذلك : عدم رضاه عن موقف الأمير عبد القادر من المفاوضات بينه وبين فرنسا في جزئية ترسيم الحدود المؤقّتة، الذي أدى إلى سلسلة حروب كان من نتائجها تعاظم البلاء والعذاب على الناس، والقضاء على الدولة والإمارة، وذلك بسبب إصرار الأمير على عدم تنازله عن الفراسخ العشرة التي طلبها الفرنسيون، وأصر على فرسخين أو ثلاثة، حتى قال الإمام أحمد في ذلك: ليته سمح لهم بعشرة فراسخ دَفْعاً لِمَا يمكنُ أَنْ يُلْحِقَه التوحُّشُ الفرنسيُّ المحتلُّ بالبلاد.
ومن مزاياه في كتاباته أَنَّه لم يفقد الجرأة على نَقْدِ الحاكم المستبدّ الطّاغي، فقد هاجم الولاة العثمانيين على الجزائر (الدايات)، لظلمهم الرعية وطغيانهم على الناس، وتمرُّدهم على السلطان العثمانيّ، وهو لا يرى أَنّ ظُلْمَ الوالي منوطٌ بالسلطان، بل أحسن الظّنﱠ بالسلطان خليفة المسلمين، وإن أساءَ مَن انتسب إليه، وهذا المنهج الذي كان عليه الإمام أحمد من نقد الظالمين من الحكّام يعكس ما عليه السّادة الصّوفيّة في القرن التّاسع عشر من جهادٍ ضدّ ولاة أمر المسلمين الظالمين، وضدّ المحتلّ الأجنبيّ الغازي، فهو لا يُفَـرِّقُ بين مسلم ظالم ومعتدٍ أجنبيّ، وقد قال: إنّ مملكة العدل مع الكفر أدوم من مملكة الظلم مع الإسلام …
ومما امتاز به منهجه في كتابه: أنه التزم منهج العلماء السابقين الذين كانوا لا يُقيمون وزناً للعصبيّات العرقية أو القبلية ، فلا يُفرِّقون بين عربي وبربري إلا بالتقوى والوفاء لقيم الإسلام، فقد كان رحمه الله تعالى يذكر الخارجين على الأمير، الذين أيّدوا المحتل من قبائل البربر، فيقول: البرابرة ، كما هو الحال عندما يذكر الخارجين عليه من قبائل العرب الذين أيدوا المحتل وناصروهُ أيضاً، فيقول: الأعراب، فيُميِّز بين البربر الأمّة القائمة وبين البرابرة العصاة، كما يُميِّز بين العرب الأمة القائمة وبين الأعراب العصاة، وهذا مصطلح تجده في القرآن الكريم، فالعرب والبربر شعوب وقبائل انصهروا، بفروعهم وألسنتهم، في بوتقة الإسلام وتعاليمه، فكوَّنوا أمة عالمية أنتجت حضارة إنسانية، وقد ذكرنا هذه المصطلحات التاريخية، التي عفا عليها الزمان، بعد أن استردَّت هذه الشعوب هُوِيَّتَها العُليـا، وهي الهوية الجزائرية بعد تحريرها من الاحتلال، وذَكَرْنا الشرح لكيلا يُساء النظر فيما يراه القارئ في الكتاب من تسمية الأمم بشعوبها.
وهذا المنهج أيضاً مما تضمنته كتابات الإمام أحمد في نظرته إلى الأمم الأخرى، لا يقيم وزناً إلا لقيم الحق والعدل التي جاء بها الإسلام، فكان عنده المسلم الظالم والمعتدي الظالم في الميزان سواء، ولا شك أَنَّ هذه تعاليم القرآن وروحه.
وكثيرة هي العِبَرُ التي يستخرجُها المرءُ من النظر في مخطوطة الشيخ العلّامة أحمد بن مُحيي الدين “نخبة ما تُسَرُّ به النواظِر” التّامّة، التي أَرَّخَ فيها مِن بداية دخول العرب إلى شماليّ إفريقيا إلى القرن التاسع عشر، وسنسعىٰ في تحقيقه ونشره في المستقبل إن شاء الله، والذي نسخه الشيخ القاسمي من مخطوط النخبة هو جُزء منها، وليست كلها، وسنضع نماذج من أصل هذه الترجمة، بخطّ القاسميّ، ليقفَ عليها القارئ، كما سنضعُ نماذج مِن المخطوطة ذاتها التّامّة، بخطّ مؤلِّفها الشيخ أحمد بن محيي الدّين، التي نسعى إلى تحقيقها في المستقبل.
وتمثِّل هذه العلاقة بين الشيخين نموذجًا للأخلاق العالية الرفيعة التي كانت سائدة بين العلماء في القرن التاسع عشر، إِذ لم يجد الشيخ القاسميُّ الأصوليُّ بأساً في أَنْ يسأل الشيخَ الصّوفيَّ المالكيَّ أحمدَ بن محيي الدين بعض الفتاوى في الدين، ويستفتيه في بعض ما يعرض له ، بل إِنَّ القاسمي خطَّ كتابَ “المواقف” للأمير عبد القادر بقلمه، وهو مستودع الحكمة وأسرار العرفان الرّبّانيّ، التي تعكس الآداب الرفيعة التي تحلَّى بها علماء الإسلام السابقون، وهذا النهج نلاحظه عند الشيخ أحمد وهو يروي كيف منع محمد علي باشا والي مصر أخاه الأمير عبد القادر من الدخول إلى بلاده حين استنجد به من فرنسا، ففي الكتاب يذكر ذلك بكل حيادٍ ووصفٍ مجرَّدٍ، ولم يتعرض لوالي مصر محمد علي باشا بسوء لرفضه وساطة إخلاء سبيله ودخوله إلى مصر.
وجدير بالذكر أن كتاب “نخبة ما تسر به النواظر” لمؤلفه الإمام أحمد، وكتاب “تحفة الزائر” لمؤلفه الفريق أول محمد باشا نجل الأمير عبد القادر، هما المصدران الوحيدان اللذان أرَّخا لحقبة الأمير، وهما شاهدان عاصرا الأحداث بتفاصيلها، والأمير أحمد في كتابه” النخبة” يبدو شيخاً يكتب بلغة واقعية نقدية عمومية غير تفصيلية، فمثلاً لم يُسَمِّ القبائل بأسمائها، لكنه ما ترك موقفاً إلا ذكره، دون الخوض في التفاصيل، واكتفى بعموميات الأحداث. وأمَّا الأمير الفريق أول محمد باشا فهو قاضٍ حقوقيٌّ، ورجلٌ عسكريٌّ، وضعَ كتابَه التحفة بلغةٍ موضوعيةٍ تفصيليةٍ تحليليةٍ مقارَنةٍ بأقوالِ المستشرقين، مع عدم انتقاده لأبيه في بعض الأزمات السياسية، مراعاة لعلاقة الأدب بين الابن وأبيه، فجاء الكتابان شهادةً على الواقع، ودراسة ًموضوعيةً، ونقديةً تحليليةً للأحداثِ وأخبار ما جرى.
وقد سبق تأليف كتاب “نخبة ما تُسَرُّ به النواظر”، للإمام أحمد،طبعة كتابَ تحفة الزائر المصرية بمُدَّة قليلة،بينما كان الفراغ من مخطوطة
“تحفة الزائر” نسخة إسطنبول في عام 1890م، ولم تُنشر بسبب مُصادرة المخطوطة في إسطنبول لمدة، حتى شَمَّرَ الأمير محمد باشا عن ساعد الاجتهاد مرةً ثانية لجمع ما تفرق من مسودة المخطوطة المُصادرة وأعادها في الطبعة المصرية عام 1903…
📍لقراءة الكتاب اضغط على الرابط في المصادر التاريخية…